أول قبلة في الإسلام

أول قبلة في الإسلام

تُعدّ القبلة من الشعائر الرمزية العظيمة في الدين الإسلامي، وهي الجهة التي يتوجّه إليها المسلمون عند أداء صلواتهم. وقد شهدت القبلة في الإسلام تحولاً تاريخياً مهماً له أبعاده العقدية والتاريخية والسياسية، حيث لم تكن الكعبة هي القبلة الأولى التي صلى إليها المسلمون، بل كانت قبلة المسلمين الأولى هي المسجد الأقصى في بيت المقدس. ومع مرور الزمن، نزل الوحي بتحويل القبلة من المسجد الأقصى إلى الكعبة المشرفة، في حادثة عظيمة لها مكانتها البارزة في السيرة النبوية وفي تاريخ التشريع الإسلامي.

المسجد الأقصى: أول قبلة للمسلمين

عندما بدأ الوحي بالنزول على النبي محمد ﷺ في مكة، كانت الصلاة إحدى العبادات المفروضة منذ بدايات الدعوة. وقد ثبت أن النبي ﷺ والمسلمين في مكة كانوا يتجهون في صلاتهم نحو المسجد الأقصى الواقع في بيت المقدس، والذي يُعتبر من أعظم المساجد بعد المسجد الحرام والمسجد النبوي. وقد دلّ على ذلك ما ورد في الأحاديث النبوية، وكذلك ما أجمعت عليه الروايات من أن المسلمين كانوا يصلون إلى بيت المقدس مدة من الزمن تقارب 16 أو 17 شهراً بعد الهجرة إلى المدينة.

وكان النبي ﷺ في مكة يحاول أن يجمع بين تعظيم الكعبة وتعظيم المسجد الأقصى، فكان يصلي في جهة تجعل الكعبة بينه وبين بيت المقدس، حيث يكون وجهه متجهاً شمالاً نحو بيت المقدس، مستقبلاً الكعبة كذلك. لكن بعد الهجرة إلى المدينة تعذر هذا الأمر، إذ أصبحت الكعبة خلف بيت المقدس بالنسبة للمدينة، وبالتالي كان النبي ﷺ يضطر إلى استقبال بيت المقدس دون الكعبة، وقد ظل على ذلك حتى جاءه الأمر من الله بتغيير القبلة.

دلالات اتخاذ المسجد الأقصى قبلة أولى

لم يكن اختيار المسجد الأقصى كأول قبلة اعتباطياً، بل كان لذلك مغزى عميق من عدة نواحٍ:

1. صلة الإسلام بالأديان السماوية السابقة: اختيار المسجد الأقصى قبلة أولى للمسلمين كان تأكيداً على وحدة الرسالات السماوية، وإعلاناً بأن الإسلام امتداد للرسالة الإبراهيمية والديانات السماوية التي سبقته، ولاسيما اليهودية، التي كانت تتخذ من بيت المقدس مركزاً روحياً لها.

2. تهيئة نفسية لأهل الكتاب: كان اتخاذ بيت المقدس قبلة أولى بمثابة محاولة للتقريب النفسي بين الإسلام وأهل الكتاب، خاصة اليهود الذين كانوا موجودين في المدينة المنورة، وقد كان ذلك بداية لمدّ جسور الحوار والدعوة.

3. إظهار شمولية الإسلام: إن توجيه المسلمين في البداية نحو بيت المقدس ثم تحويلهم إلى الكعبة بعد ذلك يعكس فكرة أن الإسلام ليس ديناً محصوراً في أرض معينة، بل هو دين عالمي يخاطب الإنسانية جمعاء.

تحويل القبلة من المسجد الأقصى إلى الكعبة المشرفة

بعد مرور ما يقرب من ستة عشر شهراً من الهجرة إلى المدينة، كان النبي ﷺ يتمنى في نفسه أن تكون الكعبة هي قبلة المسلمين، وذلك لأهميتها الدينية والتاريخية، إذ هي بيت الله الحرام الذي بناه إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام، وهي قبلة أبي الأنبياء إبراهيم، الذي يعتبره المسلمون جدهم في العقيدة. وقد عبّر القرآن الكريم عن هذه الأمنية بقوله:

﴿قَدْ نَرَىٰ تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي ٱلسَّمَآءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةًۭ تَرْضَىٰهَا ۚ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ ٱلْمَسْجِدِ ٱلْحَرَامِ ۚ وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّوا۟ وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُۥ﴾

[البقرة: 144]

وقد نزل هذا الأمر الإلهي في المدينة، وكان الحدث في مسجد بني سلمة – الذي يُعرف الآن بمسجد القبلتين – حيث قام النبي ﷺ بتغيير اتجاهه أثناء الصلاة من جهة بيت المقدس إلى جهة الكعبة المشرفة، ومنذ ذلك الحين أصبحت الكعبة قبلة المسلمين إلى يومنا هذا.

الأبعاد التربوية والروحية لتحويل القبلة

إن حادثة تحويل القبلة ليست مجرد تغيير في الاتجاه الجغرافي، بل هي حادثة ذات أبعاد تربوية وروحية وعقائدية عميقة، حيث تعكس ما يلي:

1. الامتحان الإيماني

كان تحويل القبلة اختباراً حقيقياً لصدق إيمان المسلمين واستجابتهم لأوامر الله. فقد جاء في القرآن الكريم:

﴿وَمَا جَعَلْنَا ٱلْقِبْلَةَ ٱلَّتِى كُنتَ عَلَيْهَآ إِلَّا لِنَعْلَمَ مَن يَتَّبِعُ ٱلرَّسُولَ مِمَّن يَنقَلِبُ عَلَىٰ عَقِبَيْهِ﴾

[البقرة: 143]

فهو اختبار عملي لطاعة المؤمنين، وتمييز بين من يستجيب لأوامر الله دون تردد، وبين من يرتاب أو يعترض.

2. تأكيد مركزية الكعبة

أصبح من الواضح أن الكعبة هي المركز الروحي للمسلمين، وبذلك اكتمل استقلال المسلمين عن التوجهات الدينية السابقة، وبرزت معالم الأمة الإسلامية المتميزة عن سائر الأمم.

3. توحيد المسلمين

مع اختلاف البقاع والبلدان، أوجدت القبلة الواحدة وحدةً مكانية رمزية بين المسلمين، بحيث يتجه كل مسلم في صلاته نحو نفس المكان، في تعبير عملي عن وحدة العقيدة والغاية.

موقف اليهود من تحويل القبلة

عند نزول أمر تحويل القبلة من المسجد الأقصى إلى الكعبة، اعترض اليهود في المدينة على هذا التحول، واتهموا النبي ﷺ بالتناقض، واستنكروا على المسلمين هذا التغير، معتبرين أن العودة إلى الكعبة خروج عن الإرث الديني الذي يدّعون حيازته. وقد ردّ القرآن على اعتراضاتهم:

﴿سَيَقُولُ ٱلسُّفَهَآءُ مِنَ ٱلنَّاسِ مَا وَلَّىٰهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ ٱلَّتِى كَانُوا۟ عَلَيْهَا ۚ قُل لِّلَّهِ ٱلْمَشْرِقُ وَٱلْمَغْرِبُ ۚ يَهْدِى مَن يَشَآءُ إِلَىٰ صِرَٰطٍۢ مُّسْتَقِيمٍۢ﴾

[البقرة: 142]

وهذا التوجيه الرباني أكد أن التوجه إلى جهة معينة ليس هو المقصد بذاته، بل المقصد هو طاعة الله والانقياد له، فالله هو رب المشرق والمغرب.

خلاصة في جدول:

الأثر التاريخي والديني لتحويل القبلة

كان تحويل القبلة بداية فعلية لتشكيل الهوية الإسلامية المستقلة عن الأديان الأخرى، كما أسس هذا الحدث لواقع جديد أصبحت فيه مكة هي المركز الروحي والسياسي للإسلام. وقد ظلّ هذا التحول علامة بارزة في التاريخ الإسلامي، يتم تذكّرها وتدريسها جيلاً بعد جيل، نظراً لما تحمله من معانٍ تربوية وأخلاقية عميقة في سياق بناء أمة تتبع أوامر الله تعالى وتُقدّر قدسية شعائره.

المصادر والمراجع

1. الطبري، “تفسير الطبري”، دار المعارف.

2. ابن كثير، “تفسير القرآن العظيم”، دار الفكر.